السؤال:
السلام عليكم أساتذتي.. لدي مشكلة حدثت داخل الأسرة أثرت علي نفسيا، ومهما كان الخطأ وهو من والديّ فأنا قابل منهم ما حدث ولن أخرج عن طوعهم، لكني أستفسر: كيف التعامل مع هذا الوضع؟ وكيف أني مظلوم ومنتقص مني؟ وهل ما فعله والداي صحيح؟ وماذا أفعل؟
المشكلة باختصار بسيط: لدى والدي عمارة تحت البناء وكانت نيته أن يعطيني شقة وأخرى لأخي الآخر، لكني اكتشفت في الأخير تغييرا عند الوالد فذكرت لي الوالدة أنه لن يعطيني شقة، ولكن فقط لأخي بحجة أن عملي في مدينة أخرى (ينبع) وسكني فيها غير مدينة الوالد (المدينة المنورة)؛ لأني لا أستطيع السكن في الشقة الجديدة، لكني كنت مخيرا نفسي بين أن أنزل فيها بالإجازات الأسبوعية أو أني أؤجرها لحسابي، لكن الوالد احتفظ بها لنفسه بحجة أن سكني الإجباري في ينبع، وقرر أنه سيؤجر الشقة ويأخذ هو أجرتها..
فكيف يعطي أخي ولا يعطيني؟ وكيف يعين أخي على مشقة الاستئجار عند الغير ودفع مبلغ الإيجار (20000 ريال مثلا) ولا يعينني على دفع الإيجار الذي علي في المدينة الأخرى بمبلغ إيجار الشقة الجديدة التي كان من المنطقي أن يعطيني إياها كما أعطى أخي؟ ما العمل أثابكم الله؟
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبا بك أخي الكريم بين إخوانك في موقع المسلم، وشكر الله لك ثقتك وحرصك على المشاورة في أمرك. مشكلتك أخي المبارك- كما قصصتها- تتلخص في تخصيص والدك الكريم شقة في عمارة يملكها لأخيك دون أن يخصص لك مثلها، بحجة أنك تسكن بمدينة أخرى لظروف عملك، ومن ثم فهو يرى أنك لست بحاجة لها فقرر تأجيرها والحصول على قيمة إيجارها. وسبب شكواك: أنك ترى التصرف الأمثل هو منحك شقة مثل أخيك وإنْ لم تسكن بها، حيث يمكنك لاستفادة منها حسب رغبتك، إما في إجازاتك الأسبوعية، أو تأجيرها والاستعانة بقيمة إيجارها على سكنك في مدينة عملك. ولا شك- أخي الفاضل- أن ظاهر شكواك يشعر بأحقيتك في المساواة بأخيك وعدم تسويغ التفريق بينكما في هذه العطية، لكن ثمة تفصيل مهم في المسألة يتمثل في النقاط الآتية: أولا: بالنسبة لموقف الوالدين (حفظهما الله) وتعاملك معه: أشكر لك وأُكبر فيك هذا البر والصبر والخلق الحسن الذي يرسم صورة جميلة مشرقة تضيء بين سطورك، وأنت تقول (ومهما كان الخطأ وهو من والديّ فأنا قابل منهم ما حدث ولن أخرج عن طوعهم..)، فجزاك الله خير الجزاء وتقبل منك هذا البرّ والصبر والاحتساب. ولا يخفى عليك أخي أنه لا طاعة- بعد طاعة الله تعالى، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم- أعظم من طاعة الوالدين والبر بهما والإحسان إليهما، ولهذا قرن الله طاعتهما بطاعته سبحانه بعد التحذير من الشرك؛ فقال جل وعلا: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..} [البقرة: 36]، وشدّد سبحانه في برهما بالأخص عند الكبر: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا..}. والآيات الكريمة والأحاديث النبوية في ذلك مستفيضة معلومة. ثانيا: بالنسبة للتفصيل في مسألة العدل بينك وبين أخيك: لقد شرع الإسلام العدل بين الأبناء، بل إن هذا العدل من أفضل العون على البر، وتفادي أسباب الضغائن والأحقاد بين الأبناء، وفي الأثر: (رحم الله والدا أعان ولده على بره).
ولهذا ردّ رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عطية الصحابي التي خص بها أحد أبنائه دون الآخرين، كما في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض ماله لابنها فالتوى بها سنة، ثم بدا له، فقالت: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأخذ أبي بيدي، وأنا غلام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن أم هذا، بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بشير ألك ولد سوى هذا؟» قال: نعم، فقال: «أكلهم وهبت له مثل هذا؟» قال: لا، قال: «فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور».
وفي رواية عند البخاري: «اعدلوا بين أولادكم في العطية». ولكن في المسألة تفصيلا يحسن الإحاطة به؛ حيث يرى أهل العلم أن المشروع في عطية الأولاد هو التسوية بينهم في العطاء على السواء، وأنه لا يجوز التفضيل إلا لمسوغ شرعي، كأن يكون أحدهم مقعدًا لا يستطيع العمل، أو له عائلة كبيرة لا يكفي ماله للإنفاق عليهم، أو أن يسمح بقية الأخوة بهذا التفضيل بطيب نفس، إلى غيرها من الأعذار المشروعة. كما أجاز أهل العلم منع العطية عن بعض الأولاد بسبب عقوقه أو فسقه أو بدعته، أو استعانته بالعطية على المعصية. ومن جهة أخرى جاءت أحاديث صحيحة بإباحة تصرف الوالد في ماله كما يشاء، منها عند أحمد وأبي داود وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنت ومالك لأبيك»، وعند الحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أولادكم هبة الله لكم {يهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها». (والحديثان صححهما الألباني).
وفي الجمع بين النصوص في حرية الأب في التصرف في ماله والنصوص في تقييد ذلك بالعدل ذهب جمهور أهل العلم إلى استحباب العدل والتسوية بين الأبناء، فيما رأى جمع من العلماء وجوب ذلك؛ ففي المسألة خلاف وتفصيل كما يتضح لك؛ ولعل العلم بذلك- أخي الكريم- يعينك على مزيد حسن الظن بالوالدين الكريمين؛ فلعلهما يريان شيئا من هذه الأسباب أو ما شابهها تسوّغ تخصيص أخيك بالعطية، بل إني أدعوك إلى البحث بنفسك عن أسباب تلتمس بها العذر؛ كأن يكون حال أخيك ماليا أضعف من حالك، أو أنه أكثر حاجة إلى العون منك، أو حتى أن يكون الوالد ذا حاجة للمال؛ بحيث ينفعه إيجار الشقة في سد هذه الحاجة مع كونه لا يرى مسيس حاجتك إليها، إلى غيرها من المبررات والأعذار التي يطمئن بها قلبك ويسكن بإذن الله تعالى. ثالثا: في حال انتفاء الأسباب التي تبرر تخصيص أخيك دونك مع احتياجك لهذه الشقة أو إيجارها: فهنا أشد على يديك المباركتين- قبل اقتراح الحل- أن تثابر وتصابر وترابط على حفظ كنزك الأكبر والأهم من الدنيا ومتاعها؛ وهو برك بالوالدين؛ ففيه- والله- سعادة الدارين، وصلاح الحال والمآل. ويمكنك- مع حفظ هذا البر من كل شائبة- أن تتلطف بحكمة في إيصال وجهة نظرك إن استطعت عبر الوالدة بأكرم سبيل وعبارة، كأن تقول لها: أنا ومالي لكم وطوع أمركم، والرأي رأيكم، والدنيا كلها تحت أقدامكم، ومهما فعلت فلن أوفيكم حقكم، فإن رأيتم التخفيف عني بالاستفادة من شقتي والاستعانة بها على تكاليف غربتي عن مدينتي... إلى غيرها من العبارات والأساليب الجميلة. فإن شق ذلك وتعذّر عن طريق التواصل المباشر مع الوالدة أو الوالد، فيمكن أن يتم عن طريق أحد الأقارب الأفاضل الذين لهم تقدير واحترام وصوت محترم مسموع لدى الوالدين أو أحدهما من عم أو خال أو غيرهما؛ بحيث يطرق الموضوع بذكاء دون استشعار أي ترتيبات متعمدة له معك أو من جهتك. ويبقى الصبر الجميل في كل الأحوال هو بابك الكبير لخيري الدنيا والآخرة بكل ثقة ويقين، و«ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» كما في الحديث المتفق عليه. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ...} [الزمر: 10]. فما البال وهو صبر مقترن بالبرّ؛ وجزاء البر معجّل في الدنيا فضلا عن ثواب الآخرة؟! فجدير من هذه حاله بسعادة الدارين وسعة الرزق وصلاح الحال والبال؛ وهنيئا لك أخي ما منّ الله عليك به من بر وإحسان، ويسر الله أمرك وأصلح لك شأنك كله.
الكاتب: خالد عبداللطيف.
المصدر: موقع المسلم.